فصل: تفسير الآيات (21- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (5- 14):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)}
يقول الحق جلّ جلاله: {قال} نوح شاكياً إلى الله تعالى: {رَبِّ إِني دعوتُ قومي} إلى الإيمان والطاعة {ليلاً ونهاراً} دائماً بلا فتور ولا توان، {فلم يَزِدْهُم دعائي إِلاَّ فِراراً} مما دعوتهم إليه، ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده، وإن لم يكن في الحقيقة سبباً للفرار، وهو كقوله: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا} [التوبة: 125]، والقرآن لا يكون سبباً لزيادة الرجس، لكن لمّا حصل عنده نُسب إليه، وكان الرجل منهم يذهب بابنه إلى نوح عليه السلام ويقول له: احذر هذا، فلا يعرنّك، فإنّ أبي قد أوصاني بهذا. اهـ.
{وإِني كلما دعوتُهم} إلى الإيمان بك {لتغفرَ لهم} أي: ليؤمنوا فتغفر لهم، فاكتفى بذكر المسبَّب، {جعلوا أصابعَهم في آذانهم} أي: سدُّوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي، {واستَغْشوا ثيابَهُم} أي: وتغطُّوا بثيابهم لئلا يُبصروني، كراهة النظر إلى وجه مَن ينصحهم في دين الله، {وأصَرُّوا}؛ أقاموا على كفرهم {واسْتَكْبَروا استكباراً} أي: تعاظموا عن إجابتي تعاظماً كبيراً. وذِكْرُ المصدر دليل على فرط استكبارهم.
{ثم إِني دَعَوتهم جِهاراً} أي: مجاهراً، فيكون حالاً، أو: مصدر دعوت، كقعد القرفصاء؛ لأنّ الجهار أحد نوعَي الدعاء. يعني: أظهرت الدعوة في المحافل والمجالس. {ثم إِني أعلنتُ لهم وأَسررتُ لهم إِسراراً} أي: جَمَعْتُ لهم بين دعاء العلانية والسر، فكنتُ أدعو كل مَن لقيت، فرداً وجماعة. والحاصل: أنه دعاهم ليلاً ونهاراً في السر، ثم دعاهم جِهاراً، ثم دعاهم في السر والعلن، وهكذا يفعل المذكِّر في الأمر بالمعروف، يبتدئ بالأهون فالأشد، افتتح بالمناصحة بالسر، فلما لم يُطيعوا ثنّى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان. و{ثم} تدل على تباعد الأحوال؛ لأنَّ الجِهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.
{فقلتُ استغفِروا ربكم} بالتوبة من الكفر والمعاصي فالاستغفار: طلب المغفرة، فإن كان المستغفِر كافراً فهو من الكفر، وإن كان مؤمناً فهو من الذنوب، {إِنه كان غفَّاراً} لم يزل غَفَّار الذنوب لمَن يُنيب إليه، {يُرسل السماءَ} بالمطر {عليكم مِذراراً}؛ كثير الدُّرور، أي: البروز، ومِفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث، {ويُمددكم بأموال وبنينَ} أي: يزدكم أمولاً وبنين على ما عندكم، {ويجعل لكم جنات}؛ بساتين {ويجعل لكم أنهاراً} جارية لمزارعكم وبساتينكم. وكانوا يُحبون الأموال والأولاد، فحرّكوا بهذا على الإيمان، وقيل: لمّا كذّبوه بعد طول تكرار الدعوة حبس الله عنهم القطر، وأعقم نساءهم أربعين سنة، أو سبعين، فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخِصب، ورفع عنهم ما كانوا فيه. وعن عمر رضي الله عنه: أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار، فمُطر فقيل له: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد استقيت بمجاديح السماء التي لا تخطئ، ثم قرأ الآية.
وفي القاموس: ومجاديح السماء: أنواؤها. اهـ. وشكى رجلٌ إلى الحسن الجدوبة، فقال له: استغفِر الله، وشكى إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة غلة أرضه، فأمرهم كلّهم بالاستغفار، فقيل له في ذلك، فقال: ما قلت من عندي شيئاً، ثم تلا الآية.
{ما لكم لا ترجون لله وَقَاراً} أي: لا تخافون لله عظمةً. قال الأخفش: الرجاء هنا: الخوف؛ لأنّ مع الرجاء طرفاً من الخوف واليأس. والوقار: العظمة. وقال أبو السعود: الرجاء هنا بمعنى الاعتقاد. وجملة {ترجون}: حال من ضمير المخاطبين، و{لله} متعلق بمضمر، حال من {وقارا}، ولو تأخر لكان صفة له، أي: أيُّ سبب حصل لكم حال كونكم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة للتعظيم بالإيمان والطاعة. اهـ. أو: لا تأملون له توقيراً، أي: تعظيماً، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيه تعظيم الله إياكم في دار الثواب، {وقد خَلَقَكم أطواراً} في موضع الحال، أي: ما لكم لا تؤمنون بالله، والحال أنكم على حال منافية لِما أنتم عليه بالكلية، وهي أنكم تعلمون أنه خلقكم أطواراً، أي: أحوالاً مختلفة، خَلَقَكم أولاً نُطفاً، ثم خلقكم علقاً ثم مُضغاً، ثم عظاماً ولحماً، ثم إنساناً، ثم خلقاً آخر، وبعد ظهوره إلى هذا العالم يكون شباباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، بالتقصير في توقير مَن هذه شؤونه من القدرة القاهرة والإحسان التام، مع العلم بها، مما لا يكاد يصدر عن العاقل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للداعي أن يكون على قدم أولي العزم، لا يمل من التذكير والدعاء إلى الله، ويكرر ذلك ليلاً ونهاراًن ولو قُوبل بالرد والإنكار، فلأن يهدي الله به رجلاً واحداً خير له مما طلعت عليه الشمس. وقوله تعالى: {وأصَرُّوا واستكبروا}، قال القشيري: ويقال: لَمَّا دام إصرارهُم تَولَّدَ منه استكبارُهم، قال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16]. وقال الورتجبي: مَن أصرَّ على المعصية أورثه التمادي على الضلالة، حتى يرى قبيح أفعاله مستحسناً، فإذا رآه مستحسناً يستكبر، ويعلو على أولياء الله، ولا يقبل بعد ذلك نصحتهم. قال سهل: الإصرار على الذنب يورث الاستكبار، والاستكبار يورث الجهل، والجهل يورث التخطي في الباطل، وذلك يورث قساوة القلب، وهي تورث النفاق، والنفاق يورث الكفر. اهـ.
وقوله تعالى: {استغفِروا ربكم} قال القشيري: ليعلم العاملون أنَّ الاستغفار قَرْعُ أبوابِ النعمة، ومَن وقعت له إلى الله حاجة فلا يَصِل إلى مرادِه إلاّ بتقديم الاستغفار. ويقال: مَن أراد التفضُّل فعليه بالعُذْر والتنصُّل. اهـ. وقوله: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} أي: ما لكم لا تعتقدون لله تعظيماً وإجلالاً، فلا تراقبونه، ولا تخافون سطوته، فإنَّ المشاهدة على قدر المراقبة، فمَن لم يُحْكِم أمر المراقبة لم يظفر بغاية المشاهدة. وقد خلقكم أطواراً، أي: درّج بشريتكم في أطوار مُختلفة، وهي سبعة: النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم الجنين، ثم الطفولية، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، ثم يرتحل إلى دار الدوام، وكذلك الروح لها سبعة أطوار: التوبة ثم الورع، ثم الزهد، ثم التوكُّل، ثم الرضاء والتسليم، ثم المراقبة، ثم المشاهدة. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (15- 20):

{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ألم تَرَوْا كيف خلق اللهُ سبعَ سمواتٍ طباقاً} أي: متطابقة بعضها فوق بعض، والرؤية هنا علمية؛ إذ لا يُرى بالبصر إلاَّ واحدة، وعُلِّقت بالاستفهام، وعلمهم بذلك من جهة الوحي السابق، أو كانوا منجّمين، {وجعلَ القمرَ فيهن نوراً} أي: يُنور وجه الأرض في ظلمة الليل، ونسبتُه إلى الكل مع أنه في سماء الدنيا؛ لأنَّ بين السموات ملابسة، من حيث إنها طباق، فجاز أن يقال: فيهن، وإن لم يكن في جميعهن، كما يُقال: في المدينة كذا، وهو في بعض جوانبها. وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: إن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السموات، وظهورهما مما يلي الأرض. فيكون نور القمر سارياً في جميع السموات؛ لأنها لطيفة لاتحجب نوره. {وجعل الشمسَ سِراجاً}؛ مصباحاً يزيل ظلمة الليل، ويُبصر أهلُ الدنيا في ضوئها وجه الأرض، ويُشاهدون الآفاق، كما يُبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، وليس القمر بهذه المثابة، إنما هو نور في الجملة، فنور الشمس أقوى، ومنه يستمد نور القمر، وأجمعوا أنَّ الشمس في السماء الرابعة.
{واللهُ أنبتكم من الأرض نباتاً} أي: أنشأكم منها، فاستغير الإنبات للإنشاء؛ لكونه أدل على الحدوث والتكوُّن من الأرض. و{نباتاً} إمّا مصدر مؤكد لأنبتكم، بحذف الزوائد، ويسمى اسم مصدر، وحكمة إجراء اللفظ فيه على غير فعله: التنبيه على تحتُّم القدرة وسرعة نفوذ حكمها، حتى كأنَّ إنبات الله تعالى نفس النبات، فقرَن أحدهما بالآخر، ونحوه قوله تعالى: {أّنِ اضرب بِعَصَاكَ الحجر فانبجست} [الأعراف: 16] أي: فضرب فانبجست، فجعل الانبجاس مسبباً عن الايحاء، للدلالة على سرعة نفوذ حكم القدرة، أو: لفعل مترتب عليه، أي: أَنبتكم فنبتم نباتاً، {ثُم يُعيدكم فيها} بعد الموت {ويُخرجكم} يوم القيامة بالبعث والحشر {إِخراجاً} محققاً لا ريب فيه، ولذا أكّده بالمصدر.
{واللهُ جعل لكم الأرضَ بِساطاً} تتقلبون عليها تقلُّبكم على بُسُطكم في بيوتكم. قال ابن عطية: وظاهر الآية أنَّ الأرض بسيطة غير كُروية، واعتقاد أحد الأمرين غير قادح في الشرع، إلاّ أن يترتب على القول بالكوريّة قول فاسدٌ، وأما اعتقاد كونها بسيطة فهو ظاهر في كتاب الله، وهو الذي لا يلحق عنه فساد البتةَ، واستدل ابن مجاهد على ذلك بماء البحر المحيط بالمعمور، قال: لو كانت الأرض كروية لما استقر الماء عليها. اهـ. المحشيّ الفاسي: وهو بعيد؛ لأنَّ أهل الهيئة يرون أنها مستقرة فيه اي: في البحر لا العكس، ولذلك أُرسيت بالجبال لتستقر، كما عُلم من الشرع. اهـ. قلت: وإنما حَكَمَ الحقُّ تعالى ببساطتها باعتبار ما يظهر للعين في ظاهر الأمر. والله تعالى أعلم.
وتوسيط {لكم} بين الجعل ومفعوليه، مع أنَّ حقه التأخير، للاهتمام بشأن كون المجعول من منافعهم، وللتشويق إلى المؤخّر، فإنَّ النفس عند تأخُّر ما حقه التقديم تبقى متشوقة مترقبة، فيتمكن عند ورودها له فضل تمكُّن، أي: بسطها لكم في مرأى العين {لتسلكوا منها سُبلاً فِجاجاً} أي: طُرقاً واسعة، جمع فج، وهو الطريق الواسع، وقيل: هو المسلك بين الجبلين، و{منها} متعلق ب {تسلُكوا} لِما فيه من معنى الاتخاذ، أو: بمضمر هو حال من {سُبلاً} أي: كائنة منها، ولو تأخر لكان صفة لهما.
الإشارة: تقدّم تفسير سبع سموات الأرواح، والقمر قمر التوحيد البرهاني، والشمس: شمس المعرفة، والله أنبت بشريتكم من الأرض نباتاً، ثم يُعيدكم فيها بالبقاء بعد الفناء؛ لتقوموا برسم العبودية، ثم يُخرجكم منها إلى صعود عرش الحضرة، والله جعل لكم أرض العبودية بِساطاً؛ لتسلكوا منها إلى الله في طرق واسعة، قررها أئمة الطريق من الكتاب والسنّة وإلهام العارفين ومواجيد العاشقين. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (21- 28):

{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)}
يقول الحق جلّ جلاله: {قال نوحٌ ربِّ} أي: يارب {إِنهم عَصَوْنِي} أي: داموا على عصياني فيما أمرتهم، مع ما بلغت في إرشادهم بالعظة والتذكير، ولمّا كان عصيانهم مستبعداً لكونه منكراً فظيعاً؛ لأنَّ طاعة الرسول واجبة، فأصرُّوا على عصيانه، وعاملوه بأقبح الأحوال والأفعال، أكّد الجملة بإنَّ، {واتَّبعوا} أي: اتبع فقراؤهم {مَن لم يزده مالُه وولدُه إِلاَّ خساراً}، وهم رؤساؤهم، أي: استمروا على اتباع رؤسائهم، الذين أبطرتهم أموالُهم، وغرّتهم أولادُهم، وصار ذلك سبباً لزيادة خسارهم في الآخرة، فصاروا أسوة لهم في الخسران. وفي وصفهم بذلك إشعار بأنهم إنما ابتعوهم لوجَاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأموال والأولاد، لِما شاهدوا فيهم من شبهة مصحِّحة للاتباع في الجملة. ومَن قرأ بسكون اللام فجمع ولد، كأسَد، وأُسْد.
{ومَكَروا}: عطف على صلة مَنْ، والجمع باعتبار معناه، كما أنَّ الإفراد في الضمائر الأُوَل باعتبار لفظها، والماكرون هم الرؤساء، ومكرهم: احتيالهم في الدين، وكيدهم لنوح، وتحريش الناس على أذاه، وصد الناس عن الميل إليه، {مكراً كُبّاراً}؛ عظيماً في الغاية، وهو أكبر من الكُبَار بالتخفيف، وقرئ به، والكُبَّار: أكبر من الكبير، وقرئ شاذًّا بالكسر جمع كبير. {وقالوا لا تَذَرُنَّ آلهتكم} أي: لا تتركوا عبادتها على العموم إلى عبادة رب نوح، {ولا تَذَرُنَّ وَدًّا} بفتح الواو، وضمها لغتان: صنم على صورة رجل، {ولا سُوَاعاً}؛ صنم على صورة امرأة، {ولا يَغُوثَ}؛ صنم على صورة أسد، {وَيَعُوقَ}؛ صنم على صورة فرس، وهما لا ينصرفان للتعريف ووزن الفعل إن كانا عربيين، والتعريف والعُجمة إن كانا عجميين، {ونَسْراً}؛ صنم على صورة النسر، وخصُّوا بالذكر مع اندراجهم فيما سبق؛ لأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، وقد انتقلت هذه الأصنام عنهم إلى العرب، فكان وَدّ لكلب، وسُواع لهمدان، ويغوث لمَذْحِج، ويَعُوق لمُراد، ونَسْر لحمير. وقيل: هي أسماء رجال صالحين، كان الناس يقتدون بهم، بين آدم ونوح عليهما السلام، وقيل: أولاد آدم، فلما ماتوا، قال إبليس لمَن بعدهم: لو صوّرتم صورهم، فكنتم تنظرون إليهم، وتتبرّكون بهم، ففعلوا، فلمّا مات أولئك، قال لمَن بعدهم: إنهم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: أول ما عُبِدَ من الأصنام في زمن مَهْلائِل بن غَيْنَان بن أنوش بن شيت بن آدم عليه السلام، وذلك لمّا مات آدم جعله بنو شيت في مغارة بأرض الهند، في جبل سرنديب، لموضع يسمى نوره، وهو أخصب جبل في الأرض، ثم كانوا يزورونه، ويترحّمون عليه، ويُعطمونه، فلما قَتَل قابيلُ أخاه هابيل نفوه من الأرض، فكان بمعزل عنهم هو وبنوه، فجاء الشيطانُ في صورة رجل ناصح، فقال لهم: إنَّ بني شيت يتبرّكون بآدم، وأنتم لا تلحقونه، فانحتوا صورته، وتبرَّكوا بها، ففعلوا، ثم كان لشيت ولد صالح، اسمه يغوث، فتُوفي، فكانوا يتبرّكون بقبره، فنحتَ أولادُ قابيل على صورة يغوث صورة أخرى، ثم يعوق، ثم ود، ثم سواع، ثم نسر، كلهم من أولاد شيت قوم صالحون، كانوا يتبرّكون بهم في المحْيا والممات، ولم يكن لأولاد قابيل سبيل إليهم، فنحتوا صورهم، وصاروا يُعظِّمونها، ويتبرّكون بها مثلهم، فلما طال بهم الزمان صاروا يعبدونهم دون الله، إلى أن بعث الله نوح عليه السلام فنهاهم عنها، فلم ينتهوا، فلما أهلك الله الأرض ومَن عليها بالطوفان، قذف الطوفانُ تلك الأصنام إلى أرض جُدة وما والاها من مكة، وأخفتها الرمال هناك.
قال الكلبي: وكان عَمرو بن لُحي كاهناً، يُكنّى أبا تمامة وكان يتراءى له الجن، فتراءى له يوماً جنِّي، وقال له: عَجِّل أبا تمامة بالسعد والسلامة إلى صف جدة، واستخرج ما فيها من الأصنام، وأوردها ماء تهامة، ولا تسأم ولا تهب، وادْع العرب إلى عبادتها تُجَب، فأتى عمرُو بن لُحي ساحلَ جدة، حيث وصف له الجني، واستخرج الأصنام في خِفية عنهم، وأرودها ماء تهامة، فلما حضر الحج، واجتمع الناس إلى الموسم، دعا الناس إلى عبادتها، فأجابته العرب قاطبة، وأول مَ أجابته بنو عوف بن عُزرة، فدفع لهم ودًّا، فنصبوه بواد القرى بدومة الجندل، ولم يزل عندهم إلى الإسلام، فكسره خالد بن الوليد، لَمَّا بعثه الرسولُ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك لهدم دومة الجندل فحالت بينه وبينها العرب فقاتلهم وكسَّر صنمهم. قال: الكلبي: قلت لمالك بن الحارث: صف لي ودًّا، وكان قد رآها مراراً، قال: تمثال رجل أعظم ما يكون من الرجال، مؤتزر بحُلة، مرتدٍ بأخرى، مقلَّداً سيفاً، راكباً فرساً، وفي يده حربة فيها لواء، ومعه قوس، ونبل في جعبة. اهـ. ثم دفع عمرو لمُضر سُواعاً، فعكفت على عبادته مع هُذيل، ثم فرّق تلك الأصنام على القبائل على حسب ما تقدّم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيتُ عمْرو بن لُحي ليلة أُسري بي رجلاً أحمر، قصيراً أزرق، وهو يَجُرُّ قُصْبَهُ في النار، لأنه أول مَن بَحَّرَ البَحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام، وغيّر دين إسماعيل»، وهو من خزاعة، كان يسكن مكة، فولد بها أولاداً فكثروا، فنفوا مَن كان منها من العماليق. انظر اللباب.
ثم قال تعالى: {وقدْ أَضلوا} أي: الرؤساء، أو: الأصنام، كقوله: {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ الناس} [إبراهيم: 36] {كثيراً} أي: خلقاً كثيراً، {ولا تزد الظالمين إِلاَّ ضلالاً}، قال المحشي: وقد يقال: إن هذه الجملة مسببة عما قبلها فحقها الفاء، لكن تُركت لمكان الاستئناف، أي: البياني، كأنه قال: فما تريد بهذا القول؟ فقال: ولا تزد الظالمين. اهـ. ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالظلم المفرط، وتعليل الدعاء عليهم به.
والمراد بالضلال: الهلاك، كقوله: {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47].
{مما خطيئاتِهم} أي: من أجل خطيئاتهم. وما مزيدة للتوكيد والتفخيم، {أُغرقوا} بالطوفان. وتقديم {مما} لبيان أن إغراقهم ودخولهم النار، إنما كان لأجل خطاياهم، لا لسبب آخر، {فأُدْخِلوا ناراً} عظيمة، والمراد: إمّا عذاب القبر؛ لأنه عقب الإغراق، أو حين كانوا في الماء، فقد رُوي أنهم كانوا يغرقون من جانب، ويُحرقون من جانب. أو: عذاب جهنم، والتعقيب لقربه باعتبار تحقُّق وقوعه. وتنكير النار إما لتعظيمها وتهويلها، أو لأنه تعالى أعدّ لهم نوعاً من العذاب على حسب خطيئاته، {فلم يجدوا لهم من دون اللهِ أنصاراً} ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله، وفيه تعريض بعدم نفع آلهتهم، وعدم قدرتهم على نصرهم. قيل: كان قوم نوح أهل وُسع في الزرق، فطَغوا، وكانوا يؤذون نوحاً، ويحرشون عليه ويضربونه، حتى ربما يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. كما في الحديث.
{وقال نوحٌ رَبِّ لا تَذّرْ على الأرض من الكافرين ديَّاراً} أي: أحداً يدور في الأرض، وهو فَيْعَالٌ من الدّورِ، وهو من الأسماء المستعلمة في النفي العام، يقالك ما بالديار ديَّار وديّور، كقيّام وقيوم، أي: أحد، وأصله: دّيْوار، ففعل به ما فعل بسَيِّد. {إِنك إِن تَذَرْهُم} ولا تهلكهم {يُضلُّوا عبادك} عن طريق الحق، يدعوهم إلى الضلال، {ولا يلدوا إِلاَّ فاجراً كفاراً} أي: إلاّ مَن إذا بلغ جحد وكفر، وإنما قال ذلك؛ لاستحكام علمه بما يكون منهم ومن أعقابهم، بعدما خبرهم واستقرأ أحوالهم قريباً من ألف سنة، أو: يكون بعد إخباره تعالى له بقوله: {أَنَّهُ لِن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ} [هود: 36].
{رَبِّ اغفر لي ولوالدي} وكانا مسلمَين، واسم أبيه: لَمَك بن مُتَوشْلح، واسم أمه: شمخاء بنت أنوش، وقيل: المراد: آدم وحواء. قال ابن عباس: لم يكفر بنوح والد بينه وبين آدم عليه السلام، وقرئ: {ولولديّ} يريد ساماً وحاماً، {ولِمَنْ دَخَلَ بيتي} أي: منزلي، أو مسجدي، أو سفينتي {مؤمناً}، ولعله قد علم أنَّ مَن دخل بيته مؤمناً لا يعد إلى الكفر، وبهذا القيد خرجت امرأته وابنه كنعان، ولم يجزم عليه السلام بخروجه إلاَّ بعدما قيل له: {إِنَّهُ لِيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]، {وللمؤمنين والمؤمنات} إلى يوم القيامة. خصَّ أولاً مَن يتصل به؛ لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عمَّم، {ولا تزد الظالمين} أي: الكافرين {إلاَّ تباراً}؛ إهلاكاً. قال ابن عباس رضي الله عنه: دعا نوح عليه السلام بدعوتين، إحداهما: للمؤمنين بالمغفرة، وأخرى على الكفارين بالتبار، فاستجيب على الكافرين، فاستحال ألاَّ تُجاب دعوته في حق المؤمنين. واختلف في صبيانهم: هل أُغرقوا؟ فقيل: أعقم اللهُ أرحامَ نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة، فلم يكن منهم صبي حين أُغرقوا، وقيل: أهلك أطفالهم بغير عذاب، ثم أغرق كبارهم، وقيل: غرقوا معهم كما غرق سائر الحيوانات، وهو المشهور؛ لأنّ المصيبة تعم، ثم يُبعثون على نياتهم.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: وقال نوحُ الروح، أي: شكت الروح إلى ربها، وقالت: إنَّ النفس وجنودها عَصَوني، واتبعوا حال المنهمكين في الدنيا، الفانين في أموالهم وأولادهم، فلم يزدهم ذلك إلاّ خساراً، ومكروا بي، حيث راموا مني الميل إليهم، مكراً كُبَّاراً، وقالوا: لا تَذَرُنَّ آلهتكم من الدنانير والدراهم، ولا تَذَرُنَّ ود الدنيا ومحبتها، ولا سُواع الهوى والحظوظ، ولا يغوث الرياسة والجاه، ولا يَعوق العلائق والشواغل، ولا طيور الهواجس والخواطر، يعني: لا تستعملوا ما يُخرجكم عن هذه الأشياء، مِن خرق العوائد، والزهد، والورع، بل أقيموا على تنمية دنياكم، وتوفير هواكم، وقد أضلُّوا كثيراً ممن يقتدي بهم. وقالت أيضاً: لا تزد الظالمين من هؤلاء إلاّ ضلالاً؛ هلاكها وانقطاعاً. مما خطيئاتهم أُغرقوا في بحر الدنيا، فأُدخلوا نار القطيعة، فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً، وقال نوح الروح أيضاً: لا تَذرْ على أرض البشرية من الكافرين من القواطع التي تقطعني عن السير بظلمتها ديّاراً ممن يدور بها، ويُقوي حسها، إنك إن تذرهم يدورون بها ويقطعونها عن السير، ويُضلوا عبادك عن الوصول إليك، ولا يلدوا منها إلاَّ خاطراً فاجراً كفّاراً. رَبِّ اغفر لي، خطابٌ من الروح ودعاء، ولوالدي من العقل الكلي، والنفس الكلي، وهو الروح الأعظم، ولِمن دخل بيتي، أي: تمسّك بطريقتي، ودخل في زمرتي، ولأرواح المؤمنين والمؤمنات، ولا تزد الظالين الخارجين عن طريقتي إلاَّ تباراً. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم.